Kimo mimo
عضو محترف
النوع :
عدد المساهمات :
130
العمر :
28
السمعة :
-2
الثلاثاء 09 يوليو 2013, 1:41 pm
مقال للدكتور مصطفي محمود رحمه الله
الباحث عن لحظة هدوء في هذا الزمان لا يجدها ..
إذا فتح الراديو .. تنهال عليه تشنجات قادة إسرائيل ، و أخبار الزلازل و السيول و الأعاصير ..
و إذا فتح التليفزيون .. تنهمر عليه مسلسلات العنف و الباتمان و حرب النجوم ..
و إذا طالع صحف الصباح .. تفاجئه أخبار انهيار البورصة و جنون البقر و الإيدز ..
و إذا بحث عن موسيقى يريح عليها أعصابه أو أغنية تهدأ لها عواطفه .. نزلت عليه لقطات الفيديو كليب تتقافز صورها و تتشنج رقصاتها و تتسارع إيقاعاتها في إزعاج متواصل ..
و إذا فتح الشباك .. قرقعت في آذانه أبواق السيارات و أصوات الميكروفونات و صراخ الباعة ..
و إذا أغلق الشباك و نزل إلى الطريق .. خنقه الزحام ..
و إذا انطلق هارباً إلى الأتوبيس .. لم يجد موقعاً لقدم ..
و إذا حمل أوراقه و شهاداته و أسرع ليتقدم لوظيفة .. وجد طابور طلاب الوظائف يسد الشارع ..
و إذا بحث عن شقة .. لم يجد ثمنها ..
و لا إحتمال قريباً في عمل .. و لا أمل في زواج .. و لا أمل في حل سريع يأتي من السماء ..
و في آخر المشوار يسقط في يده .. و لا يجد حلاً سوى أن يعود أدراجه إلى البيت إلى فراشه أو إلى ستين سنة إلى الوراء .. إلى ماضٍ بعيد و إلى جيل انتهى ..
إلى الشَدو الهادئ في صوت أم كلثوم ..
و إلى الحنان الرخيم في صوت عبد الوهاب ..
و إلى دندنة هادئة مع العود .. بدون فيديو كليب ..
و إلى الجمال البِكر بدون إفتعال ..و إلى البساطة العذبة بدون صنعة ..
و إذا مس زرار الراديو في ذلك الزمان البعيد ، فإنه سوف ينقله إلى شوبان .. إلى الحلم .. و الخيال الناعم .. و السماوية الرحبة .. و الشوارع أيامها خالية .. و المواصلات مريحة .. و شقق للإيجار تتدلى لافتاتها من النوافذ .. و المرتب يكفي و زيادة ..
و جلسة على شاطئ النيل هي كل المراد .
ماذا حدث للدنيا ؟! .. و لماذا يصرخون المغنون .. و لماذا يتشنج الراقصون ؟! .. و لماذا هذه الإيقاعات المزعجة و الموسيقى النحاسية التي تخرق الآذان ؟!
هذه الأمور تُفصِح عن فقر فَني .. و ذوق فاسد .. و بلادة سمعية .. ما ضرورتها لصوت جميل بالفعل ؟!
و هذا التسويق الفَج .. ما الداعي إليه .. لولا سوء البضاعة و رخص الموهبة ؟ ..
و اضحكوا معي على الغلاء الطاحن .. مع رُخص الناس .. و رخص الفن .. و انعدام القيم .. و تفاهة البضاعة .
إننا معاقبون يا سادة بهذا الضنك ..
و تأملوا كلمات ربكم :
{ وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } ( طه - 124 )
أليس عالَم اليوم قد تلخص كله في هذه الكلمة البليغة .. " الضنك " .. " و الإعراض " ؟!
أليس العالَم قد أعرض تماماً عن كل ما هو رباني و غرق تماماً في كل ما هو علماني و مادي و دنيوي و شهواني و عاجل و زائل .. و الكلام على مستوى العالَم كله !
الكل متعجل يريد أن يغنم شيئاً و أن يلهف شيئاً .. لا أحد ينظر فيما بعد .. و لا فيما وراء ..
الموت لا يخطر ببال أحد .. و ما بعد الموت خرافة .. و الجنة و النار أساطير .. و الحساب حدوتة عجائز .. و الذين يحملون الشعارات الدينية .. البعض منهم موتور و البعض مأجور ..
و المخلِص منهم لا يبرح سجادته و يمشي إلى جوار الحائط .. فهو ليس مع أحد .. و ليس لأحد ..
و إنما هو مشدود و منفصل عن الركب .. و مشفق من العاقبة .. و هو قد أغلق فمه و احتفظ بعذابه في داخله .. و اكتفى بالفُرجة .
و الناس في ضنك .. و كل العالَم أغنيائه و فقرائه .. كلهم فقراء إلى الحقيقة .. فقراء إلى الحكمة .. فقراء إلى النُبل .
و أكثر الأنظار متعلقة بالزائل و العاجل و الهالِك .
و الدنيا ملهاة .
و هي سائرة إلى مجزرة ..
فالله في الماضي كان يوقظ خلقه بالرسل و الأنبياء .. و اليوم هو يوقظهم بالكوارث و الزلازل و الأعاصير و السيول ..
فإن لم تُجْدِ معهم تلك النُذُر شيئاً ، ألقَى بهم إلى المجازر و الحروب يأكل بعضهم بعضاً و يُفني بعضهم بعضاً .
و حروب المستقبل حروب فناء .. تأكل الأخضر و اليابس و تدع المدن العامرة خراباً بلقعا .
و نحن على حافة الرعب و الصصراع المُفني .. و ماذا يهم ؟! ماذا يهم ؟!
فالمغنية تغني و تتلوى على المسرح .. في إيقاع أفعواني .. تحت بقعة الضوء .. و الألوف يرقصون كالأشباح في الصالة دون وعي ..
ماذا تقول .. ؟!
لا أحد يصغى إلى ما تقول .. و إنما الكل يصرخ و يصفق و يهتف و يتلوى كأفاعٍ مسحورة .. و الطبول و الدفوف و الإيقاع الهمجي قد حوَّل الكل إلى قِطعان بدائية ترقص في شبه غيبوبة .
و لا تملك و أنت تستمع معهم إلا أن تفقد إتزانك و قدميك ثم تصبح جزءاً من هذا اللاوعي المفتون .. و قد خيَّم على الجو إحساس الكهوف البدائية .
هل انتهت الحضارة فجأة .. و عدنا إلى كهوف الإنسان الأول ؟!
هل تبخر العقل .. و لم تبقَ إلا غرائز تعوى و تتلوى على الطبول و الدفوف ؟! .. يا سادة .. تلك هي نهاية علمانية اليوم .
و تلك هي احتفالية العالَم بنهاية الإيمان .
إحتفالية بالعقل الذي أسلم نفسه للهوى .. و الحِكمة التي نزلت عن عرشها للغرائز .. و الإنسان الذي أسلم قياده للحيوان .
و ماذا يهم .. ؟!
لا شيء يهم .. !!
إننا نرقص اليوم للفجر .. و ليكن غداً ما يكون .
هكذا تعلمنا في سهرات " الدِش " و إبداعات مادونا و جاكسون و فنون الموجة الشبابية الجديدة و برامج الأقمار و الفضائيات القادمة علينا من أمريكا و أوروبا .
و ذلك هو العصر العجيب الذي نعيش فيه ..
أمريكا - القطب العملاق الذي يحكم العالَم - تخصصت في صناعة الغيبوبة لشباب هذا العالَم ..
عن طريق أفلام الحب و العنف و الرعب و أساطير الخيال العلمي ..
و عن طريق الرحلات الفضائية و الصواريخ المنطلقة إلى القمر و المريخ و زحل و المشترى ..
و عن طريق ترسانة كيميائية تُنتِج عقاقير الهلوسة و إكسير الشباب و الفياجرا .
و من أمريكا خرجت أكذوبة الميلاتونين .. و من أمريكا خرج الديسكو و الجاز و نوادي الشواذ .. و من أمريكا انتشرت صنلعة الغيبوبة لتصبح صناعة مقررة في أكثر الحكومات و سلاحاً مشروعاً تحارب به الأزمات و تشغل به الشعوب عن بها .
سلاح إسمه " الهروب اللذيذ " .. على أنغام الموسيقى و الديسكو و على رقصات المادونا .
و لا أحد يكره أن يهرب من مشكلة في ساعة لذّة و إغماء غيبوبة .. بل كل مراهق يحلم بهذا الهروب اللذيذ و يسعى إليه .
و هذه الفكرة الإبليسية هي التي يدير بها الكبار العالَم .
و حرب الخليج كانت هي " النهب اللذيذ " لبترول الخليج و ثرواته .. و لكن الإسم المُعلَن لهذا النهب كان شعارات مبهرة عن تحرير الشعوب و نجدة الضعفاء و نصرة الديمقراطية و إعادة الشرعية .. إلخ .. إلخ .. إلى آخر الأسماء الجذابة الخلابة التي تدير الرؤوس و تُسكِر النفوس .
و الإعلام هو دائماً الأداة الإبليسية لهذا النهب اللذيذ .. و الإستعمار اللذيذ .. و الهروب اللذيذ ..
{ ن وَ الْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ } ( القلم - 1 )
و ما أعجب ما يصنع القلم .. و ما أعجب ما يسطر ذلك القلم الذي يُميت و يُحي ، و يُسحِر و يَفتِن ، و يوقِظ و يُنيم ، و يبني و يُخَرِّب ، و يهدي و يُضِل .
و هناك الآن أقلام عظيمة تجيد صناعة هذا " التيه " .
و مؤسسات عالمية تصنع للشعوب الدوار .. و تتفنن في تسمية الأشياء بغير أسمائها ، و تسبغ هالات المجد على تفاهات .. و تروج للجريمة و الشذوذ و فنون الغيبوبة .
و أصبح من لزوميات هذا العصر أن يكون في أذن كل مستمع " فلتر " .. و في عين كل مشاهد " فلتر " .. لكشف الزيف في الكلمات و المرائي و المَشاهد .. خاصة في المشاهد العسل .. و الكلمات العسل .. و الوعود العسل .. التي يُقصَد بها النوم في العسل ..
و إذا فتحت ال c.n.n. أو أي محطة .. إجعل هدفك هو البحث فيما وراء ما تسمع .. البحث فيما وراء المقاصد .. و فيما وراء الأهداف من كل كلمة و كل خبر .. و لا تُحسِن الظن .. فإن سوء الظن الآن هو من حُسن الفِطَن .
و لا تنَم على الشعارات و الأماني و الوعود الطنانة .. فقد لا تصحو و لا ترى تحقيق تلك الوعود أبداً .. و قد تفاجأ بها تنقلب إلى ضدها ..
مثل وعود نتانياهو و اتفاقات أوسلو و مدريد و شعارات حقوق الإنسان التي يطلقها القطب الأمريكي الأوحد ..
و ضع كل الكلام في سلة المهملات و انظر في الأفعال و سوف ترى ..
الأرض في مقابل السلام .. تصبح : الأمن في مقابل السلام .. ثم السلام في مقابل السلام .. ثم السلام في مقابل لا شيء ..
و هذا هو الفيديو كليب السياسي .. و اتفاقات " القص و اللزق " كل يوم على مقاس الوعي العربي .. و الصف العربي .. و اللي مش عاجبه يشجب .
و هذا هو التياترو السياسي العالمي في هذا العصر ، و المسرح الإعلامي الآن يُضاء من جديد ، و الصالة تضج بالتصفيق و الهِتاف و المادونا الفاتنة تتهادى في ضباب الأضواء برقصها الأفعواني ..
و الموسيقى تدير الرؤوس و تُسكِر النفوس ، و الطبول تدق بإيقاعها الهمجي ، و الدفوف ترتعش لتأخذ الكل في دوامة من الدوار اللذيذ .. إنها مونيكا .
و جرعة أخرى من عقار الغيبوبة السحري تتسلل إلى العروق و تلف الكل في غلالة من النسيان .
و بورِكَت ليالي الأنس يا صاح .. فما عاد أحد من الحضور يعرف نفسه ، و لا عاد أحد يدري بمكانه .. أو زمانه .. أو حضوره .. أو ماضيه .. أو مستقبله ..
و لا شك أن التليفزيون جهاز خطير يدخل كل بيت و يفعل بنا أكثر من هذا .
هذه العلبة السحرية .. و هذا الأصبع الذي اسمه الريموت كونترول .. تضغط على زرار فتستدعي فرقة راقصة من الفولي برجير تأتي لترقص لك شخصياً ..
و تضغط على زرار آخر فتستدعي بها ألفيس بريسلي من قبره ليغني لك روائع أنغامه ..
و ضغطة أخرى تستدعي بها كوكتيل من الأكاذيب السياسية في أحلى عبوات من الكلام على لسان أكبر الشخصيات العالمية .. يلبس فيها الباطل ثوب الحق .. و تختلط المفاهيم و تنقلب المعاني في عقلك و يُلقَى بك في متاهات من التزيف الحلو الجذاب الناعم .. و لا تعود تفهم شيئاً ..
و هذا هو الإعلام الإبليسي في عصرنا ..
و حينما تطفئ تلك العلبة الشيطانية .. تكون قد أصبحت رجلاً آخر دون أن تدري ..
و هذا هو عصرنا .. و لا أحد مُحصَّن .. و لا أحد معفي من هذه المطاردة الخفية لتشكيل أفكاره .. و زلزلة نفسه .. و محو قِيَمه و مثالياته .
و الفضاء حولنا يحتشد بهذه الجيوش غير المنظورة التي تهاجمنا صباح مساء و لكل دولة كبرى مصالح .
و لكل دولة كبرى أغراض .
و لكل دولة كبرى مطالب منك و من بلدك .. و أطماع فيك و في بلدك .
و صناعة الغيبوبة و غزو العقل و الإستيلاء على الفكر قبل الأرض .. أصبحت صناعة العصر ..
و التحكم عن بعد في الشعوب .. أصبح لعبة الكبار و الصغار .
هل تجاوزنا السياسة .. أم أننا لا نزال فيها ؟!
بل نحن في قلب " المطبخ السياسي " الذي تُطبخ فيه توجيهات الشعوب و اهتماماتها و تُطبخ فيه مصائرها .
الباحث عن لحظة هدوء في هذا الزمان لا يجدها ..
إذا فتح الراديو .. تنهال عليه تشنجات قادة إسرائيل ، و أخبار الزلازل و السيول و الأعاصير ..
و إذا فتح التليفزيون .. تنهمر عليه مسلسلات العنف و الباتمان و حرب النجوم ..
و إذا طالع صحف الصباح .. تفاجئه أخبار انهيار البورصة و جنون البقر و الإيدز ..
و إذا بحث عن موسيقى يريح عليها أعصابه أو أغنية تهدأ لها عواطفه .. نزلت عليه لقطات الفيديو كليب تتقافز صورها و تتشنج رقصاتها و تتسارع إيقاعاتها في إزعاج متواصل ..
و إذا فتح الشباك .. قرقعت في آذانه أبواق السيارات و أصوات الميكروفونات و صراخ الباعة ..
و إذا أغلق الشباك و نزل إلى الطريق .. خنقه الزحام ..
و إذا انطلق هارباً إلى الأتوبيس .. لم يجد موقعاً لقدم ..
و إذا حمل أوراقه و شهاداته و أسرع ليتقدم لوظيفة .. وجد طابور طلاب الوظائف يسد الشارع ..
و إذا بحث عن شقة .. لم يجد ثمنها ..
و لا إحتمال قريباً في عمل .. و لا أمل في زواج .. و لا أمل في حل سريع يأتي من السماء ..
و في آخر المشوار يسقط في يده .. و لا يجد حلاً سوى أن يعود أدراجه إلى البيت إلى فراشه أو إلى ستين سنة إلى الوراء .. إلى ماضٍ بعيد و إلى جيل انتهى ..
إلى الشَدو الهادئ في صوت أم كلثوم ..
و إلى الحنان الرخيم في صوت عبد الوهاب ..
و إلى دندنة هادئة مع العود .. بدون فيديو كليب ..
و إلى الجمال البِكر بدون إفتعال ..و إلى البساطة العذبة بدون صنعة ..
و إذا مس زرار الراديو في ذلك الزمان البعيد ، فإنه سوف ينقله إلى شوبان .. إلى الحلم .. و الخيال الناعم .. و السماوية الرحبة .. و الشوارع أيامها خالية .. و المواصلات مريحة .. و شقق للإيجار تتدلى لافتاتها من النوافذ .. و المرتب يكفي و زيادة ..
و جلسة على شاطئ النيل هي كل المراد .
ماذا حدث للدنيا ؟! .. و لماذا يصرخون المغنون .. و لماذا يتشنج الراقصون ؟! .. و لماذا هذه الإيقاعات المزعجة و الموسيقى النحاسية التي تخرق الآذان ؟!
هذه الأمور تُفصِح عن فقر فَني .. و ذوق فاسد .. و بلادة سمعية .. ما ضرورتها لصوت جميل بالفعل ؟!
و هذا التسويق الفَج .. ما الداعي إليه .. لولا سوء البضاعة و رخص الموهبة ؟ ..
و اضحكوا معي على الغلاء الطاحن .. مع رُخص الناس .. و رخص الفن .. و انعدام القيم .. و تفاهة البضاعة .
إننا معاقبون يا سادة بهذا الضنك ..
و تأملوا كلمات ربكم :
{ وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } ( طه - 124 )
أليس عالَم اليوم قد تلخص كله في هذه الكلمة البليغة .. " الضنك " .. " و الإعراض " ؟!
أليس العالَم قد أعرض تماماً عن كل ما هو رباني و غرق تماماً في كل ما هو علماني و مادي و دنيوي و شهواني و عاجل و زائل .. و الكلام على مستوى العالَم كله !
الكل متعجل يريد أن يغنم شيئاً و أن يلهف شيئاً .. لا أحد ينظر فيما بعد .. و لا فيما وراء ..
الموت لا يخطر ببال أحد .. و ما بعد الموت خرافة .. و الجنة و النار أساطير .. و الحساب حدوتة عجائز .. و الذين يحملون الشعارات الدينية .. البعض منهم موتور و البعض مأجور ..
و المخلِص منهم لا يبرح سجادته و يمشي إلى جوار الحائط .. فهو ليس مع أحد .. و ليس لأحد ..
و إنما هو مشدود و منفصل عن الركب .. و مشفق من العاقبة .. و هو قد أغلق فمه و احتفظ بعذابه في داخله .. و اكتفى بالفُرجة .
و الناس في ضنك .. و كل العالَم أغنيائه و فقرائه .. كلهم فقراء إلى الحقيقة .. فقراء إلى الحكمة .. فقراء إلى النُبل .
و أكثر الأنظار متعلقة بالزائل و العاجل و الهالِك .
و الدنيا ملهاة .
و هي سائرة إلى مجزرة ..
فالله في الماضي كان يوقظ خلقه بالرسل و الأنبياء .. و اليوم هو يوقظهم بالكوارث و الزلازل و الأعاصير و السيول ..
فإن لم تُجْدِ معهم تلك النُذُر شيئاً ، ألقَى بهم إلى المجازر و الحروب يأكل بعضهم بعضاً و يُفني بعضهم بعضاً .
و حروب المستقبل حروب فناء .. تأكل الأخضر و اليابس و تدع المدن العامرة خراباً بلقعا .
و نحن على حافة الرعب و الصصراع المُفني .. و ماذا يهم ؟! ماذا يهم ؟!
فالمغنية تغني و تتلوى على المسرح .. في إيقاع أفعواني .. تحت بقعة الضوء .. و الألوف يرقصون كالأشباح في الصالة دون وعي ..
ماذا تقول .. ؟!
لا أحد يصغى إلى ما تقول .. و إنما الكل يصرخ و يصفق و يهتف و يتلوى كأفاعٍ مسحورة .. و الطبول و الدفوف و الإيقاع الهمجي قد حوَّل الكل إلى قِطعان بدائية ترقص في شبه غيبوبة .
و لا تملك و أنت تستمع معهم إلا أن تفقد إتزانك و قدميك ثم تصبح جزءاً من هذا اللاوعي المفتون .. و قد خيَّم على الجو إحساس الكهوف البدائية .
هل انتهت الحضارة فجأة .. و عدنا إلى كهوف الإنسان الأول ؟!
هل تبخر العقل .. و لم تبقَ إلا غرائز تعوى و تتلوى على الطبول و الدفوف ؟! .. يا سادة .. تلك هي نهاية علمانية اليوم .
و تلك هي احتفالية العالَم بنهاية الإيمان .
إحتفالية بالعقل الذي أسلم نفسه للهوى .. و الحِكمة التي نزلت عن عرشها للغرائز .. و الإنسان الذي أسلم قياده للحيوان .
و ماذا يهم .. ؟!
لا شيء يهم .. !!
إننا نرقص اليوم للفجر .. و ليكن غداً ما يكون .
هكذا تعلمنا في سهرات " الدِش " و إبداعات مادونا و جاكسون و فنون الموجة الشبابية الجديدة و برامج الأقمار و الفضائيات القادمة علينا من أمريكا و أوروبا .
و ذلك هو العصر العجيب الذي نعيش فيه ..
أمريكا - القطب العملاق الذي يحكم العالَم - تخصصت في صناعة الغيبوبة لشباب هذا العالَم ..
عن طريق أفلام الحب و العنف و الرعب و أساطير الخيال العلمي ..
و عن طريق الرحلات الفضائية و الصواريخ المنطلقة إلى القمر و المريخ و زحل و المشترى ..
و عن طريق ترسانة كيميائية تُنتِج عقاقير الهلوسة و إكسير الشباب و الفياجرا .
و من أمريكا خرجت أكذوبة الميلاتونين .. و من أمريكا خرج الديسكو و الجاز و نوادي الشواذ .. و من أمريكا انتشرت صنلعة الغيبوبة لتصبح صناعة مقررة في أكثر الحكومات و سلاحاً مشروعاً تحارب به الأزمات و تشغل به الشعوب عن بها .
سلاح إسمه " الهروب اللذيذ " .. على أنغام الموسيقى و الديسكو و على رقصات المادونا .
و لا أحد يكره أن يهرب من مشكلة في ساعة لذّة و إغماء غيبوبة .. بل كل مراهق يحلم بهذا الهروب اللذيذ و يسعى إليه .
و هذه الفكرة الإبليسية هي التي يدير بها الكبار العالَم .
و حرب الخليج كانت هي " النهب اللذيذ " لبترول الخليج و ثرواته .. و لكن الإسم المُعلَن لهذا النهب كان شعارات مبهرة عن تحرير الشعوب و نجدة الضعفاء و نصرة الديمقراطية و إعادة الشرعية .. إلخ .. إلخ .. إلى آخر الأسماء الجذابة الخلابة التي تدير الرؤوس و تُسكِر النفوس .
و الإعلام هو دائماً الأداة الإبليسية لهذا النهب اللذيذ .. و الإستعمار اللذيذ .. و الهروب اللذيذ ..
{ ن وَ الْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ } ( القلم - 1 )
و ما أعجب ما يصنع القلم .. و ما أعجب ما يسطر ذلك القلم الذي يُميت و يُحي ، و يُسحِر و يَفتِن ، و يوقِظ و يُنيم ، و يبني و يُخَرِّب ، و يهدي و يُضِل .
و هناك الآن أقلام عظيمة تجيد صناعة هذا " التيه " .
و مؤسسات عالمية تصنع للشعوب الدوار .. و تتفنن في تسمية الأشياء بغير أسمائها ، و تسبغ هالات المجد على تفاهات .. و تروج للجريمة و الشذوذ و فنون الغيبوبة .
و أصبح من لزوميات هذا العصر أن يكون في أذن كل مستمع " فلتر " .. و في عين كل مشاهد " فلتر " .. لكشف الزيف في الكلمات و المرائي و المَشاهد .. خاصة في المشاهد العسل .. و الكلمات العسل .. و الوعود العسل .. التي يُقصَد بها النوم في العسل ..
و إذا فتحت ال c.n.n. أو أي محطة .. إجعل هدفك هو البحث فيما وراء ما تسمع .. البحث فيما وراء المقاصد .. و فيما وراء الأهداف من كل كلمة و كل خبر .. و لا تُحسِن الظن .. فإن سوء الظن الآن هو من حُسن الفِطَن .
و لا تنَم على الشعارات و الأماني و الوعود الطنانة .. فقد لا تصحو و لا ترى تحقيق تلك الوعود أبداً .. و قد تفاجأ بها تنقلب إلى ضدها ..
مثل وعود نتانياهو و اتفاقات أوسلو و مدريد و شعارات حقوق الإنسان التي يطلقها القطب الأمريكي الأوحد ..
و ضع كل الكلام في سلة المهملات و انظر في الأفعال و سوف ترى ..
الأرض في مقابل السلام .. تصبح : الأمن في مقابل السلام .. ثم السلام في مقابل السلام .. ثم السلام في مقابل لا شيء ..
و هذا هو الفيديو كليب السياسي .. و اتفاقات " القص و اللزق " كل يوم على مقاس الوعي العربي .. و الصف العربي .. و اللي مش عاجبه يشجب .
و هذا هو التياترو السياسي العالمي في هذا العصر ، و المسرح الإعلامي الآن يُضاء من جديد ، و الصالة تضج بالتصفيق و الهِتاف و المادونا الفاتنة تتهادى في ضباب الأضواء برقصها الأفعواني ..
و الموسيقى تدير الرؤوس و تُسكِر النفوس ، و الطبول تدق بإيقاعها الهمجي ، و الدفوف ترتعش لتأخذ الكل في دوامة من الدوار اللذيذ .. إنها مونيكا .
و جرعة أخرى من عقار الغيبوبة السحري تتسلل إلى العروق و تلف الكل في غلالة من النسيان .
و بورِكَت ليالي الأنس يا صاح .. فما عاد أحد من الحضور يعرف نفسه ، و لا عاد أحد يدري بمكانه .. أو زمانه .. أو حضوره .. أو ماضيه .. أو مستقبله ..
و لا شك أن التليفزيون جهاز خطير يدخل كل بيت و يفعل بنا أكثر من هذا .
هذه العلبة السحرية .. و هذا الأصبع الذي اسمه الريموت كونترول .. تضغط على زرار فتستدعي فرقة راقصة من الفولي برجير تأتي لترقص لك شخصياً ..
و تضغط على زرار آخر فتستدعي بها ألفيس بريسلي من قبره ليغني لك روائع أنغامه ..
و ضغطة أخرى تستدعي بها كوكتيل من الأكاذيب السياسية في أحلى عبوات من الكلام على لسان أكبر الشخصيات العالمية .. يلبس فيها الباطل ثوب الحق .. و تختلط المفاهيم و تنقلب المعاني في عقلك و يُلقَى بك في متاهات من التزيف الحلو الجذاب الناعم .. و لا تعود تفهم شيئاً ..
و هذا هو الإعلام الإبليسي في عصرنا ..
و حينما تطفئ تلك العلبة الشيطانية .. تكون قد أصبحت رجلاً آخر دون أن تدري ..
و هذا هو عصرنا .. و لا أحد مُحصَّن .. و لا أحد معفي من هذه المطاردة الخفية لتشكيل أفكاره .. و زلزلة نفسه .. و محو قِيَمه و مثالياته .
و الفضاء حولنا يحتشد بهذه الجيوش غير المنظورة التي تهاجمنا صباح مساء و لكل دولة كبرى مصالح .
و لكل دولة كبرى أغراض .
و لكل دولة كبرى مطالب منك و من بلدك .. و أطماع فيك و في بلدك .
و صناعة الغيبوبة و غزو العقل و الإستيلاء على الفكر قبل الأرض .. أصبحت صناعة العصر ..
و التحكم عن بعد في الشعوب .. أصبح لعبة الكبار و الصغار .
هل تجاوزنا السياسة .. أم أننا لا نزال فيها ؟!
بل نحن في قلب " المطبخ السياسي " الذي تُطبخ فيه توجيهات الشعوب و اهتماماتها و تُطبخ فيه مصائرها .